
تُعدّ العبودية واحدة من الظواهر الاجتماعية المعقدة التي عرفتها أغلب المجتمعات البشرية في مراحل تاريخية مختلفة، ولم تكن منطقة جنوب الصحراء الكبرى استثناءً من ذلك.
وقد اتخذت العبودية في هذه المنطقة أشكالًا متعددة، تراوحت بين الاسترقاق نتيجة الحروب، أو بفعل التراتبية القبلية، أو كنتيجة للتبادل التجاري العابر للصحراء.
*أولًا: السياق التاريخي للعبودية في موريتانيا*
موريتانيا، الدولة العربية الواقعة في جنوب غرب الصحراء الكبرى، شهدت ممارسات عبودية تعود جذورها إلى الفتوحات الإسلامية في مجاهل مالي والسنغال، حيث كان يتم أسر المقاتلين أو غير المسلمين وبيعهم ضمن منظومة الرق. كما مورست العبودية على سكانها من قِبل البرتغاليين في القرن السادس عشر، إذ تعرّض المسلمون العرب في المناطق الساحلية للاختطاف والبيع في أسواق العبيد، ضمن ما يُعرف بتجارة الأطلسي.
ومع دخول الاستعمار الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر، كان من أوائل القرارات التي اتخذها المستعمر هو حظر تجارة الرقيق. غير أن هذه الخطوة ظلّت شكلية، إذ استمرت العبودية فعليًا، خصوصًا في المزارع والمراعي، تحت غطاء العادات الاجتماعية أو التواطؤ الإداري، ولم تُسجَّل إرادة جادة في محاربتها جذريًا.
*ثانيًا: من التجريم إلى المأسسة القانونية
بعد الاستقلال، بدأت الدولة الموريتانية تتخذ خطوات تدريجية لمحاربة الظاهرة، فتم تجريم العبودية لأول مرة في القانون الجنائي سنة 1981، ثم تبعته قوانين أكثر صرامة، مثل قانون 2007 و2015، الذي صنف العبودية "جريمة ضد الإنسانية"، وأنشأ محاكم خاصة للجرائم المتعلقة بها. كما نص دستور 2012 المعدل على أن الجمهورية الإسلامية الموريتانية تحرم العبودية، وتضمن المساواة أمام القانون.
*ثالثًا: آثار العبودية وتسييس الملف*
رغم أن العبودية كممارسة تقليدية باتت شبه منعدمة اليوم، فإن آثارها الاجتماعية والاقتصادية لا تزال حاضرة. فهناك فوارق في فرص التعليم والعمل والمشاركة السياسية.
كما ظهرت فئات من أبناء المسترقين المتعلمين، ممن يسعون لرفع الظلم التاريخي عن أسرهم متناسين ان العبودية ظاهرة قديمة عانى منها الجميع وانها فى موريتانيا مارستها كل الطبقات حتى العبيد السابقين اصبحوا يستعبدون الاخرين لكن الاغنياء من لحراطين كانوا من اكثر من مارسها مع فظاعتها مع ا ان الاسلام دين حرية لادين استعباد ، لكن في حالات معينة، تحوّلت هذه المطالب إلى أدوات ضغط سياسي أو استغلال خارجي، من خلال تقديم المظلومية في محافل دولية لتشويه الدولة، دون اعتبار للتقدم المحقق داخليًا.
وتزداد خطورة هذا الاتجاه حين تتحول المطالب الاجتماعية إلى ورقة في صراع الهويات، أو يتم طرحها بلغة التعميم والتخوين، وهو ما يتناقض مع روح العدالة ومقتضيات العيش المشترك.
*رابعًا: مقارنات دولية*
إن مراجعة التجارب العالمية تظهر أن الدول التي عرفت العبودية (كفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية، والبرازيل، وغيرها) انتهجت مسارات قانونية لإغلاق الملف، تقوم على *الاعتراف، فالتجريم، ثم الإدماج*.
*ففي الولايات المتحدة، استمرت آثار العبودية لعقود بعد التحرير، وتم تجاوزها عبر تشريعات المساواة و"التمييز الإيجابي".
أما في إفريقيا، فقد شهدت دول مثل النيجر ومالي والسنغال ممارسات مشابهة، ولا تزال آثارها قائمة، لكنها لم تتحول إلى أداة سياسية لتقويض الاستقرار الوطني، بل تم احتواؤها ضمن منظومات العدالة الاجتماعية والتنمية.
*خامسًا: السياق الموريتاني وضرورة الإغلاق الحكيم*
في موريتانيا، ومع التقدم الحاصل في محاربة العبودية، سواء على المستوى الدستوري أو المؤسسي أو الاجتماعي، فإن الواجب الوطني يقتضي الانتقال من *مرحلة المطالبة المستمرة* إلى *مرحلة المصالحة الحقيقية*.
وهذا يتطلب تعزيز التنمية في المناطق الهشة، وتكافؤ الفرص في الإدارة، وتثمين الرموز الاجتماعية من كل المكونات، دون محاباة ولا تمييز.
كما أن إعادة إنتاج مظالم الماضي في الخطاب السياسي دون رؤية موضوعية يعمّق الجراح بدل أن يداويها، ويهدد بتفكيك النسيج الوطني، تحت عناوين لا تخدم العدالة ولا تنصف الحقيقة.
*خاتمة:*
إن معالجة آثار العبودية في موريتانيا، كما في غيرها من دول الجنوب، تستوجب قراءة متوازنة بين التاريخ والواقع، وبين القانون والسياسة.
فالملف يجب أن يُغلق بمقاربة وطنية متصالحة، *تُغلّب المواطنة على التراتبية، والمساواة على الامتيازات التاريخية*.
ومن المهم التذكير بأن *الهوية العربية، المتمثلة في غالبية السكان، ما تزال مغيّبة في مفاصل الإدارة*، حيث ما تزال اللغة الفرنسية تُستخدم في التعليم والإدارة والقطاع الاقتصادي، رغم أن نسبة الناطقين بها لا تتجاوز 5٪، وهو استمرار لنهج استعماري قديم لم يعد ينسجم مع روح الاستقلال، ولا مع مقتضيات دولة المواطنة.
ولن يكون تحقيق العدالة الاجتماعية والتماسك الوطني ممكنًا ما لم تُعزَّز الإرادة السياسية القائمة حاليًا، وتُستكمل بقرارات جريئة، تُغلّب المصلحة العامة على المزايدات، وتُخرج هذا الملف الحساس من التجاذب، إلى رحاب الانصاف، والمصالحة، والدستور.