
قررت السلطات القضائية في مالي فرض إدارة وطنية مؤقتة على مجمّع "لولو-غونكوتو"، أكبر مناجم الذهب في البلاد، في خطوة مفصلية تعكس توجهاً حكومياً متصاعداً لإعادة هيكلة قطاع التعدين وضمان التزام الشركات الأجنبية بالقوانين الوطنية. ويأتي هذا القرار بعد أشهر من التوتر مع شركة "باريك غولد" الكندية، المالكة لنسبة 80٪ من المنجم، بسبب نزاع مالي يتعلق بضرائب غير مدفوعة ومستحقات تراكمت لصالح الخزينة العامة.
بموجب حكم صادر عن المحكمة التجارية في باماكو بتاريخ 16 يونيو 2025، تم تعيين زومانا ماكادجي المحاسب القانوني والوزير المالي السابق، كمدير مؤقت للمجمع المنجمي لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد، وتأتي هذه الخطوة بهدف استئناف عمليات الإنتاج المتوقفة منذ يناير الماضي، واستعادة العائدات المالية التي تمثل ركيزة أساسية لاقتصاد البلاد.
يقع المجمع في منطقة كاي غرب البلاد، ويعد من أغنى الحقول الذهبية في إفريقيا، ويساهم بنسبة كبيرة في تمويل خزينة الدولة.
القرار جاء بعد فشل المفاوضات مع شركة "باريك غولد " بشأن دفع متأخرات ضريبية تتجاوز 500 مليون دولار. ورغم أن الشركة تؤكد دفعها قرابة 85 مليون دولار، تعتبر السلطات المالية أن هذه المبالغ لا تعكس الحجم الحقيقي للديون المتراكمة.
من جهتها، وصفت شركة باريك غولد ما حدث بأنه "مصادرة فعلية" لممتلكاتها، وأعلنت أنها لجأت إلى مركز تسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولي، لطلب التحكيم الدولي، محذّرة من أن ذلك قد يؤثر على مناخ الأعمال في مالي ويقوّض ثقة المستثمرين.
وفي المقابل، شددت الحكومة المالية على أن تحركها يستند إلى حقها السيادي في حماية مصالح شعبها، ومواجهة ما تعتبره "اختلالاً جسيماً في التوازن التعاقدي"، خاصة بعد أن كشف تقرير أولي للتدقيق في قطاع التعدين عن تجاوزات تُقدّر بمئات المليارات من الفرنكات CFA خلال السنوات الماضية، منها عدم تحويل عائدات تصدير الذهب، وعدم دفع أرباح أو استثمارات في التنمية المجتمعية من قبل عدد من الشركات.
ورغم التصعيد القانوني، لم تُغلق الحكومة المالية باب الحوار، مؤكدة التزامها بالتوصل إلى تسويات تراعي مصلحة الشعب دون الإضرار بالمناخ الاستثماري. وزير المالية، ألاوسيني سانو، صرّح مؤخرًا بأن الدولة لا تسعى لكسر العقود، بل لاستعادة ما يمكن استعادته من الأموال العامة، مشيراً إلى إمكانية التفاوض لاسترداد ما بين 300 و400 مليار فرنك CFA من الضرائب المتراكمة.
يُعد هذا التحرك جزءاً من إصلاحات أوسع تتبناها الحكومة الانتقالية منذ 2021، شملت مراجعة شاملة للقانون المنجمي، واعتماد مدونة تعدين جديدة عام 2024، تُتيح للدولة رفع حصتها في المشاريع إلى 30%، وتُلزم الشركات الأجنبية بالشراكة مع المستثمرين المحليين. كما تم اعتماد قانون للمحتوى المحلي يعزز إدماج الكفاءات المالية في المشاريع التنموية.
وتؤكد الحكومة أن هذه التدابير تهدف إلى سد الثغرات التي لطالما استغلتها بعض الشركات للتهرب من التزاماتها الضريبية، أو الاستفادة من امتيازات مفرطة غير عادلة للاقتصاد الوطني.
وتشير بيانات وزارة الاقتصاد إلى أن الذهب يشكل نحو 25% من ميزانية الدولة و75% من عائدات التصدير، في حين لا تمتلك مالي احتياطات ذهبية فعلية، ما يثير تساؤلات واسعة حول مدى عدالة العقود القديمة، التي غالباً ما منحت امتيازات غير متوازنة للمستثمرين الأجانب.
وبحسب النتائج الأولية لتقرير تدقيق أجرته الحكومة، تم الكشف عن تهريب مالي محتمل يُقدّر بـ2600 مليار فرنك إفريقي من عائدات صادرات المناجم بين عامي 2019 و2021، في ظل شبهات واسعة حول تقاعس بعض الشركات الأجنبية عن دفع الضرائب أو الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية تجاه المجتمعات المحلية.
كما أظهر التقرير وجود شركات تنشط منذ أكثر من عقد دون أن تسجّل أي أرباح لصالح الخزينة، إلى جانب تقصير كبير في تنفيذ برامج التنمية المجتمعية، رغم البنود التعاقدية التي تلزمها بذلك.
وفي وقت تخشى فيه بعض الأطراف من أن تؤدي هذه الإجراءات إلى نفور المستثمرين، تؤكد السلطات المالية أن الهدف هو إعادة بناء علاقات شراكة عادلة تحفظ سيادة الدولة وتضمن التوزيع المنصف للثروة الوطنية.
وقد بدأت آثار هذه السياسة تظهر على مؤشرات العائدات، إذ سجلت وزارة المالية ارتفاعاً بنسبة 52.5٪ في مداخيل القطاع المنجمي خلال العام الماضي، بفضل تفعيل النظام الضريبي الجديد وتطبيق معايير رقابية أكثر صرامة.
تضع الحكومة الانتقالية ملف منجم "لولو-غونكوتو" في قلب معركة أوسع لإعادة صياغة المشهد الاقتصادي في مالي، بعد عقود من التبعية والنزيف المالي. ويبدو أن القرار القضائي الأخير لا يأتي بمعزل عن هذه الرؤية، بل كجزء من سلسلة إصلاحات تهدف إلى ضمان استفادة حقيقية للمواطنين من ثرواتهم الطبيعية، وتأسيس نموذج تنموي أكثر سيادة وعدالة.