صفعة الشرطي للمعلم لم تأت من فراغ. فمهنة التعليم النبيلة أصبحت منفرة، وينظر اليها المجتمع والإدارة بازدراء، لافتقارها لأدنى الظروف المادية الضرورية، بعد أن كانت غداة الاستقلال مطمحا لكل شاب موريتاني، لمكانة العلم الرمزية والاعتبارية، وبعد أن كان المعلم في طليعة النخب الوطنية التي كانت تعيش وضعا محترما جدا.
ثقافة التفاهة التي اكتسحت المجتمع، مع الارتفاع المطرد لمستويات الفساد والإثراء غير المشروع، وحلم التحصيل السريع للمال بدون جهد يذكر، جعلت قيمة المال تتصدر سلم القيم في مجتمع استهلاكي، فقد ثوابته، لذلك تراجعت مكانة المعلم ونظرة المجتمع إليه.
هذه الصفعة تذكرنا بضرورة تكريس مبدأ الاستثمار في رأس المال البشري، لأنه هو الاستثمار الحقيقي، الذي يجب أن يحظى بالأولوية القصوى التي يستحقها.
لذلك، لا بد من تحصين المعلم والرفع من شأنه ومكانته، حتى يتمكن من العمل باعتزاز وكرامة، ويقدم الإنتاجية اللازمة، لكي يكون طرفا فاعلا وإيجابيا في العملية التعليمية والتربويّة.
تكون بداية هذا التوجه مع الزيادة المعتبرة في أجور المعلمين، للمحافظة على كرامتهم ومكانتهم الاعتبارية، تماما كما فعلت الدولة مع الإدارة المحلية (الحكام والولاة) والقضاة، من أجل رد الاعتبار لمن أوكلنا لهم تكوين وتعليم وتربية الأجيال القادمة.
فعلا، صفعة الشرطي للمعلم لم تأت من فراغ. فقوات الأمن تعودت، منذ نشأة الدولة الحديثة، على عدم التسامح المفرط مع أي مظاهرة، حتى لو لم تكن تهدد الأمن العام، والتعامل بوحشية مع المواطنين، في ظل الإحساس بالإفلات التام من العقاب. ثقافة الميل للقمع البوليسي هي إرث من الأنظمة الاستبدادية في الماضي، حيث كان أدنى احتجاج سلمي يعتبر إخلالا بالأمن العام.
علينا أن ندرك خطورة التداعيات المحتملة لهذه الممارسات، وتأثيرها على السلم الأهلى، فشرارة "البوعزيزي" التي قلبت الطاولة على نظام بن علي في تونس ليست ببعيد. كما على الحكومة أن تغتنم هذه الفرصة، وتقوم بإصلاح شامل للأجهزة الأمنية، وتطهيرها من شبهات وخرق القانون، والاستهتار بحقوق وحريات المواطنين.
إصلاح المنظومة الأمنية يمر عبر تكثيف التكوين الأولي والمستمر لأفراد قوات الأمن على قواعد وضوابط استخدام القوة في سياق ديمقراطي، مع احترام حقوق الإنسان، ووضع آليات للأخلاقيات والمساءلة والمحاسبة، من أجل معاقبة مرتكبي التجاوزات والانتهاكات والممارسات غير القانونية. هذا هو منطق سيادة القانون.