أجرى الرئيس الموريتاني، محمد ولد الشيخ الغزواني، في 27 ديسمبر الفائت، تغييرات واسعة على مستوى القيادات في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وذلك بعد يومين من إحالة ضباط كبار إلى التقاعد، وهو ما يأتي بالتزامن مع اقتراب نهاية فترة ولايته الأولى (2019 – 2024) والاستعداد لإجراء الانتخابات الرئاسية في 22 يونيو 2024.
وتكتسب هذه التغييرات أهمية خاصة في ضوء التحديات الأمنية الداخلية والخارجية التي تواجهها موريتانيا. إذ شهدت الفترة الرئاسية الأولى للغزواني محاولات من جانب التنظيمات الإرهابية لاستهداف البلاد وتهريب الإرهابيين من السجون، على غرار الهجوم الذي تعرض له السجن المركزي في نواكشوط والذي وقع في 6 مارس الماضي.
كما تتصاعد حدة التهديدات الإرهابية على الحدود مع دول الجوار، في ظل مشهد إقليمي مضطرب، لا سيما بعد بدء موجة جديدة من الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل وغرب أفريقيا والتي امتدت من مالي إلى بوركينافاسو ثم النيجر.
ومن هنا، يمكن القول إن هذه الإجراءات تعكس قلقاً موريتانياً متزايداً من انتقال عدوى الانقلابات العسكرية إلى البلاد، ومحاولة لتعزيز القبضة الأمنية بهدف مواجهة التهديدات الإرهابية المحتملة، خاصة مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في منتصف العام الجاري.
دوافع عديدة
تضمنت التغييرات التي أجراها الرئيس الموريتاني تكليف محمد فال الرايس بمنصب قائد مساعد لأركان الجيش، وتعيين محمد ولد الشيخ ولد بيده قائداً للقوات الجوية، وأحمد سعيد بنعوف قائداً لأركان البحرية، وأعل زايد ولد أمبارك مفتشاً عاماً للقوات المسلحة وقوات الأمن، ومحمد ولد لحريطاني قائداً لأركان الحرس الوطني، وأحمد ولد تاشفين قائداً مساعداً لأركان الحرس الوطني.
ولم تقتصر هذه التغييرات على القوات المسلحة فقط، بل شملت أيضاً مجموعةً من المسئولين الأمنيين، حيث تم تعيين أبو بكر ولد أحمد مستشاراً جديداً للشئون الأمنية برئاسة الوزراء، ومحمد الشيخ ولد محمد الأمين مديراً عاماً للأمن الوطني.
ويمكن تفسير إقدام الرئيس ولد الشيخ الغزواني على إجراء هذه التغييرات في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تجنب عدوى الانقلابات العسكرية بمنطقة الساحل: شهدت منطقة الساحل خلال الفترة الأخيرة من عام 2020 وحتى عام 2023 موجة من الانقلابات العسكرية بدأت من مالي وانتقلت إلى بوركينافاسو ثم النيجر، التي شهدت في 26 يوليو 2023 انقلاباً عسكرياً على الرئيس السابق، محمد بازوم. ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المؤسسة العسكرية في موريتانيا نفسها حالة من عدم الاستقرار نتيجة الصراعات المستمرة بين القيادات الرئيسية، والتي كان للتكوينات القبلية دور بارز فيها.
ويبدو أن الرئيس الموريتاني أراد من خلال إجراء هذه التغييرات في قيادات القوات المسلحة تعزيز قبضته على المؤسسة العسكرية من خلال تعيين القادة الموالين له، والعمل على إبعاد أنصار الرئيس السابق، محمد ولد عبد العزيز، ومن ثم تقليص أى احتمالات لوقوع انقلاب عسكري ضده.
ويمكن القول إن ما يزيد من أهمية هذا الهدف هو تزايد استياء العسكريين في موريتانيا تجاه السياسة التي تتبناها فرنسا في التعامل مع أزمات المنطقة، في الوقت الذي يؤسس فيه الرئيس ولد الشيخ الغزواني علاقات قوية مع فرنسا وحلف الناتو، فضلاً عن سخط أنصار الرئيس السابق، محمد ولد عبد العزيز، بسبب الحكم الذي أصدره القضاء الموريتاني، في 5 ديسمبر الفائت، والذي قضى بسجنه لتورطه في قضية فساد.
يضاف إلى ذلك الطبيعة القبلية للمؤسسة العسكرية، والتي كان لها دور في الانقلابات التي تعرضت لها الأخيرة، خلال الفترة من عام 1974 وحتى عام 2008. ومع ذلك، فإن اتجاهات عديدة ترى أن هذا الاحتمال مستبعد، في ضوء الإجراءات المستمرة التي اتخذها الغزواني منذ توليه رئاسة البلاد عام 2019، حيث سبق أن أجرى تغييرات بارزة شملت قيادات في القوات المسلحة في 8 يونيو 2020.
2- تعزيز جهود مكافحة التنظيمات الإرهابية: يُشير إجراء الرئيس الموريتاني تغييرات على مستوى القيادات الأمنية إلى رغبته في تعزيز القبضة الأمنية في مواجهة التهديدات الإرهابية المحتملة، خاصةً في ظل تردي الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل، وتصاعد حدة العمليات الإرهابية في المنطقة بعد سحب فرنسا قواتها من مالي خلال عام 2022 ثم قيامها بالخطوة نفسها في النيجر خلال ديسمبر 2023، فضلاً عن انسحاب النيجر وبوركينافاسو بعد مالي من مجموعة الساحل الخماسية، ومن ثمّ انهيار هذا التكتل الأمني وتراجع مستوى التنسيق الأمني بين دول المنطقة.
ولذا، يبدو أن ثمة مخاوف موريتانية من أن تؤدي حالة عدم الاستقرار السياسي والاضطراب الأمني التي تشهدها دول الجوار إلى تعرضها لمحاولات اختراق من جانب التنظيمات الإرهابية بشكل يهدد استقرارها وأمنها الوطني.
3- اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية: لم يعلن الرئيس ولد الشيخ الغزواني بعد موقفه من الترشح لفترة رئاسية ثانية، رغم أن بعض الأحزاب السياسية نظمت حملة لتأييده. لكن يبدو أن ثمة مخاوف لدى الرئيس من محاولات أنصار الرئيس السابق وأحزاب المعارضة التأثير على نتائج الانتخابات.
فقد دعت ما يُسمى “الجبهة الوطنية للتغيير”، في 30 نوفمبر الماضي، إلى تغيير نظام حكم الرئيس الحالي، وأشاد أنصار الرئيس السابق، محمد ولد عبد العزيز، بفترة حكمه، ونددوا بما “تعرض له من ظلم” خلال محاكمته بتورطه في قضية فساد.
وفي الوقت ذاته، ثمة تنامٍ في حراك التيارات الشبابية المعارضة، حيث تشكلت جبهة معارضة جديدة تعرف باسم “ائتلاف أمل موريتانيا”، تسعى إلى الدفع بمرشح أو أكثر لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما يمثل تطوراً جديداً في المشهد السياسي الموريتاني.
ويبدو أن السلطات الموريتانية لا تستبعد احتمال اندلاع احتجاجات معارضة لاستمرار ولد الشيخ الغزواني في الحكم، خاصة بعد توجيه بعض الأحزاب المعارضة للحكومة اتهامات بتزوير نتائح الانتخابات التشريعية التي أجريت على مرحلتين في 13 و27 مايو الماضي.
4- توسيع القاعدة الشعبية للنظام: يبدو أن هذه التغييرات تأتي في سياق الحملة التي تروج لها الحكومة والتي تحاول من خلالها تعزيز القاعدة الشعبية للنظام، قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية، عبر الإشارة إلى منح الأولوية لتمكين الشباب، وتبني حلول فعالة للتعامل مع أزمة البطالة والفقر والهجرة. وقد أشارت وسائل الإعلام الموريتانية في هذا السياق إلى أن التغييرات التي أجريت على مستوى المؤسستين العسكرية والأمنية شملت قيادات خدمت لأكثر من أربعين عاماً.
وقد كان لافتاً أن الرئيس ولد الشيخ الغزواني بدأ خلال الشهور الأخيرة في إجراء مقابلات إعلامية، ركز فيها على النتائج التي حققتها السياسة التي تبناها خلال ولايته الرئاسية الأولى، خاصة فيما يتعلق بما أطلق عليه “التهدئة السياسية” بين أحزاب المعارضة والموالاة، فضلاً عن مواجهة الاضطرابات الأمنية والسياسية التي تصاعدت حدتها على الساحة الإقليمية نتيجة التطورات التي شهدتها منطقة الساحل، وكان آخرها الانقلاب العسكري الذي وقع في النيجر في 26 يوليو الماضي.
تحديات محتملة
ختاماً، يبدو أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ورغم عدم إعلان ترشحه حتى الآن، يعمل على الفوز بولاية ثانية، خاصة أنه نجح منذ توليه السلطة في تشكيل تحالفات سياسية وحزبية داعمة لنظام حكمه، واتخاذ سلسلة من القرارات لإحكام قبضته على المؤسستين العسكرية والأمنية.
ومع ذلك، فإن فترة ولايته الثانية المحتملة قد تواجه تحديات لا تبدو هينة، لا سيما التحديات الأمنية التي يمكن أن تنتج عن تزايد محاولات التنظيمات الإرهابية للانتقال إلى الداخل الموريتاني، وهو ما يعني أن البلاد ليست محصنة ضد التهديدات التي تفرضها الأنشطة والعمليات التي تقوم بها هذه التنظيمات.
د. حمدي بشير