العلاقات بين موريتانيا وحلف “الناتو”، شهدت طفرة نوعية في الآونة الأخيرة، في ظل تغيُّر العقيدة الاستراتيجية للحلف في اتجاه دمج شرق المتوسط وشمال إفريقيا ومنطقة الساحل، بما يترتب عليه من تزايُد أهمية موريتانيا استراتيجيا وأمنيا.
على الرغم من توقيع موريتانيا وروسيا اتفاقية تعاون عسكري في منتصف 2021، وما تردد حول سعي موسكو إلى بناء قاعدة بحرية في الشمال الموريتاني، فإن من البديهي أن يكون الهدف الأساسي للإطار الجديد للشراكة الأطلسية الموريتانية هو الوقوف ضد التمدد الروسي في منطقة الساحل.
مع أن “الناتو” يطمح إلى أن تُشكل موريتانيا مركز عملياته الميدانية في إقليم الساحل الذي يشهد أزمات داخلية حادة، إلا أن السلطات الموريتانية لا تزال تُبدي رفضها لمنطق الاستقطاب والمحاور، وتريد حصر الاستفادة من الشراكة مع “الناتو” في إعادة بناء جيشها وتوطيد قدراتها العسكرية والأمنية.
الاهتمام الكبير الذي يبديه حلف “الناتو” بموريتانيا يثير تساؤلات حول الأمور المشتركة بين الطرفين، وأسباب توجه الحلف نحو موريتانيا، وآفاق العلاقة بين الطرفين ومحدداتها.
عوامل استراتيجية
في الأشهر الأخيرة تزايدت مؤشرات دخول العلاقة بين موريتانيا وحلف شمال الأطلسي “الناتو” طورا جديدا، تمثَّل في اقتراب نواكشوط من تأمين حصولها على موقع الشريك الأساسي والوحيد لـ”الناتو” في منطقة الصحراء والساحل، بما يعزز موقعها الاستراتيجي في شمال وغرب إفريقيا، خصوصا في أفق دخولها المرتقب نادي البلدان المصدرة للغاز الطبيعي.
تحولات نوعية ومهمة دفعت بحلف “الناتو” للتوجه نحو علاقات متطورة مع موريتانيا والتركيز على دورها الإقليمي حيث تنتمي إلى المجالين المتوسطي والساحلي أهمها، بروز المعادلة الجديدة لشرق المتوسط التي تمثِّل الإطار الجيوسياسي الحالي للمنظومة الأوروآسيوية، من حيث هي هدف لمشروعين روسي وصيني للهيمنة والتحكم. يتعلق الأمر هنا بالنسبة لـ “الناتو” بضرورة تأمين مجال حيوي موال للغرب من خلال دعم دول البلقان وجنوب المتوسط المنتمية للحلف أو الشريكة معه، والوقوف دون التقارب الروسي التركي، ودمج بلدان الشرق الأوسط الحليفة في هذا المجال الحيوي.
أيضا انهيار منظومة الشراكة الساحلية بعد الانقلابات العسكرية التي حدثت في مالي وبوركينا فاسو في 2021 و2022، وانسحاب مالي من المنظمة الخماسية، وتزايد النفوذ الروسي في المنطقة، إضافة إلى تعثر إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى الدول الأوروبية، بما يُشكل تهديدا خطيرا لأمن الطاقة في القارة، ويفرض إعادة بناء الاستراتيجيات النفطية والغازية لدول المنظومة الأطلسية في اتجاه دول شمال إفريقيا وغربها المنتجة للغاز الطبيعي.
نوفل البعمري، المحام و المحلل السياسي المغربي، يوضح خلال حديثه لـ”الحل نت”، أنه سبق لحلف “الناتو” أن وجه دعوة لوزير خارجية موريتانيا للحضور في الجلسة الختامية للحلف التي انعقدت في حزيران/يونيو الماضي، في محاولة للحلف للانفتاح على موريتانيا من أجل مواجهة مختلف التهديدات الأمنية التي يعتبرها “الناتو” تمس بمصالحه الاستراتيجية خاصة مع التهديدات الكبيرة التي تواجهها موريتانيا للتصدي للإرهاب وتنظيماتها الجهادية التي تتواجد بمنطقة الساحل جنوب الصحراء.
لذلك فالعوامل المشتركة الموجودة بين الجانبين استراتيجية ومرتبطة بأمن المنطقة و بالمخاطر الكبيرة التي باتت تهدد الدول المشكلة لحلف “الناتو”، خاصة مع انعكاسات الحرب الروسية الغربية التي تجعل من الصراع على منطقة إفريقيا يشتد لمستويات عليا تزداد مع التقارير الإعلامية التي تتحدث عن تواجد عناصر مجموعة “فاغنر” في المنطقة ككل.
أسباب توجه “الناتو” نحو موريتانيا
بعد قمة “الناتو” في مدريد في حزيران/يونيو الماضي، تزايدت وتيرة الاتصالات بين الحلف وموريتانيا التي كانت قد دُعيت إلى القمة، وصرح حينها مساعد الأمين العام للحلف أن موريتانيا انتقلت من منزلة شريك أساسي مع الحلف إلى منزلة الشريك الوحيد في منطقة الساحل، التي تُعرف حاليا بثالوث الانفجار الأمني، وعدم الاستقرار السياسي، والاختراق العسكري الروسي.
أيضا فإن الإطار الجديد للشراكة الأطلسية الموريتانية يهدف أساسا إلى الوقوف ضد التمدد الروسي في منطقة الساحل، وتزامن هذا التوجه مع خطوات مماثلة مع الجزائر لمحاصرة الدور الروسي القديم، واضطلعت فرنسا وإيطاليا بجهود دبلوماسية في هذا السياق.
البعمري يرى أن هناك عدة أسباب تجعل من “الناتو” يفكر في التوجه نحو موريتانيا، منها موقعها الاستراتيجي بالنسبة إلى شمال إفريقيا وغربها، وتموقعها في احتكاك جغرافي وأمني لدول الساحل، وهي كلها عوامل تجعل من موريتانيا نظرا لموقعها الإستراتيجي بالنسبة لإفريقيا و”الناتو” وقربها من المغرب يشكلان معا قوة استراتيجية للحفاظ على الأمن في المنطقة ومواجهة التحديات الكبيرة التي تشغل “الناتو” والبلدين.
آفاق التعاون والمحددات بين الطرفين
موريتانيا منذ استقلالها رفضت وجود أي قاعدة عسكرية أجنبية على أرضها، كما أنها تُراعي حساسية الجزائر في أي وجود عسكري غربي على حدودها، لذلك فمن غير المطروح أن تستقبل مركز العمليات التابع لـ”الناتو” في الساحل مع أنها تبدو البلد الوحيد المهيأ له في المنطقة.
لذلك من المرجح ألَا تتجاوز الشراكة بين حلف “الناتو” وموريتانيا التعاون في مجالات الدعم المؤسسي والتكوين العسكري والأمني والاستشارات الاستخبارية والمعلوماتية.
موريتانيا كانت قد اقترحت على شركائها في “الناتو” إطارا للشراكة يتمثل في تطوير القدرات العسكرية للجيش الموريتاني، من حيث التكوين والتسليح، مع إعادة تصور منظومة الساحل الإقليمية بغية دمج المغرب والجزائر والسنغال لتعويض الدور المالي، مع السعي لاستعادة مالي للمجموعة.
“الناتو” من جهته وافق على الرؤية الموريتانية، رغم وجود العديد من العوائق التي لا تزال تعترض توسيع المظلة الساحلية، وفي مقدمتها الخلاف المغربي الجزائري، والمشاكل الداخلية المتفاقمة في إقليم الساحل، في حين تم الشروع عمليا في برامج إعادة تأهيل الجيش الموريتاني للقيام بدوره الأمني الجيوسياسي في الإطار الإقليمي بحسب ما تم الاتفاق عليه بين الطرفين.
في هذا السياق، يؤكد البعمري أن آفاق التعاون بين موريتانيا و”الناتو” تتنوع بين ما هو أمني مرتبط بمواجهة التحديات الأمنية سواء ما يرتبط منها بالإرهاب أو الهجرة السرية، ثم ما يرتبط بكيفية مواجهة هذه التحديات، ويبقى بالنسبة لموريتانيا كيفية استغلال هذه الرغبة الموجودة لدى “الناتو” لتنتقل هذه الشراكة من شراكة ذات بعد أمني إلى شراكة يدخل فيها ما هو تنموي واقتصادي.
أسباب عديدة جعلت من موريتانيا محط أنظار “الناتو”، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وأزمة الطاقة العالمية، والتهديدات الإرهابية في الساحل الإفريقي والتغلغل الروسي في هذه المنطقة، لتغدو موريتانيا ذات الموقع الجغرافي المهم الشريك الإفريقي الوحيد لـ”الناتو”.
تقرير: عاصم الزعبي