نحو فهم علمي لحوادث النقل عبر الطرق/المهندس اباي ولد امعييف | موريويب

نحو فهم علمي لحوادث النقل عبر الطرق/المهندس اباي ولد امعييف

خميس, 07/31/2025 - 11:39

المقدمة:

يرى الكثير من الناس النقل على أنه مجرد وسائل ومركبات تتحرك على طرق، لكن الحقيقة أن النقل هو علم هندسي دقيق، يُدرَّس في الجامعات و المدارس ويعتمد على نظريات رياضية وتحليلية متقدّمة كباقي فروع الهندسة المدنية. ويُعنى هذا العلم بتصميم البنى التحتية و تشييدها، تنظيم الحركة و المرور، تحسين السلامة، ودراسة التفاعلات بين الإنسان والمركبة والبيئة.

يشكّل النقل نظامًا متكاملًا مكون من سلسلة مترابطة من العناصر والمراحل تبدأ بالمدخلات (Inputs) و تشمل : مصادر الطاقة اللازمة لتشغيل المركبات، المركبات نفسها باعتبارها وسيلة الحركة، والسائقين كمستخدمين ومشغّلين للنظام إضافة إلى البنى التحتية من طرق وجسور ومحطات والإطار القانوني والتنظيمي الذي يضبط سلوك المرور.

تدخل هذه العناصر في مرحلة التفاعل (System processing) حيث تتحرك المركبات على الطرق ضمن شبكة مرورية تتفاعل فيها إشارات المرور، نظم التحكم، وسلوكيات السائقين، ما يخلق بيئة تشغيل ديناميكية تجمع بين العنصر البشري والتقني.

تنتج عن هذا التفاعل مجموعة من المخرجات (outputs) أهمها : خدمات التنقّل (نقل الأشخاص و البضائع)، استهلاك الطاقة، انبعاثات بيئية ناتجة عن الحركة، إضافة إلى الحوادث التي تُعد أحد مؤشرات فاعلية النظام أو اختلاله.

ولتقييم وتحسين الأداء، يعتمد النظام على آلية التغذية الراجعة (Feedback) من خلال جمع بيانات المرور، تحليل مؤشرات الأداء (مثل السرعة، زمن الرحلة، معدلات الحوادث)، وتوظيفها في إجراء تعديلات على التصميم الهندسي، أو تحديث التشريعات والسياسات المرورية، بما يضمن الاستجابة المستمرة لمتغيرات الواقع و تحسين السلامة و الكفاءة.

و يعتبر تحليل الحوادث وتفسيرها أحد محاور النقل الأساسية و ذلك ضمن مقاربة علمية شاملة. فالحادث لا يُفهم كواقعة معزولة أو قضاءً وقدرًا بل كنتيجة لتفاعل معقّد بين عدة مكونات من هذا النظام ومن هنا فإن تطوير سلامة و أمان النقل تتطلبان خبرات هندسية متخصصة قادرة على قراءة الأرقام والوقائع ضمن منظور نظمي.

عناصر منظومة النقل :

يتكوّن نظام النقل من خمسة عناصر رئيسية مترابطة و متداخلة تتفاعل فيما بينها :

- السائق )العنصر البشر(

- المركبة )وسيلة النقل(

- الطريق والبنية التحتية

- البيئة الطبيعية والمناخية

- السلطة التنظيمية والرقابية

وأي خلل أو ضعف في أحد هذه المكوّنات يمكن أن يتسبب في حادث أو يُفاقم من آثاره ولهذا فإن حوادث السير ليست مجرد مصادفات بل تحصل نتيجة لخلل في توازن هذا النظام و تشخيصها لا يعتمد على اقوال الناس و الشهود أو اللوم المباشر بل يتطلب:

• أدوات قياس ميدانية

• منهج هندسي و تحليلي صارم

• فحص شامل لكل العوامل المادية و البشرية و البيئية.

المفاتيح الفنية لتشخيص الحوادث :

لقد ساد في بدايات القرن العشرين ما يُعرف بـ "نظرية السائق الأرعن" التي تلغي بالمسؤولية على السائق حيث تفترض أن بعض السائقين لديهم ميول فطرية أو نفسية لارتكاب الحوادث، لكن مع تزايد الحوادث و الاهتمام بها تم القيام بدراسات متقدمة أُثبتت أن التركيز الحصري على السائق غير كافٍ و أن الحادث ليس خطأ بشريا فقط بل هو فشل في النظام و من هنا ظهرت نماذج تبنّت التحليل المنظومي، أبرزها ما يعرف بمصفوفة Haddon ، التي تعتبر من أهم أدوات تحليل الحوادث المرورية على المستوى العالمي.

فلقد ابتكر الدكتور William Haddon إطارًا تحليليًا شاملاً ثلاثي الأبعاد لدراسة الحوادث يجمع بين المراحل الزمنية و العوامل المحورية.

المراحل الزمنية الثلاث :

- ما قبل الحادث : تخص مرحلة الوقاية، وتشمل العوامل التي تمنع وقوع الحادث مثل قوانين السير، حالة الطريق، حالة السيارات ووعي السائقين.

- أثناء الحادث : تخص مرحلة التخفيف، تركز على الحد من الإصابات من خلال تجهيزات المركبة والبنية التحتية.

- ما بعد الحادث : تخص مرحلة الاستجابة، وتشمل سرعة التدخل الطبي والإنقاذ وتقليل الأضرار الناتجة.

العوامل المحورية الثلاثة :

- العنصر البشري : يخص السائق، الراكب، المشاة، سلوكهم، حالتهم النفسية والبدنية، تدريبهم، ردة فعلهم.

- المركبة : تخص خصائص السلامة من حالة الفرامل، الإطارات، أنظمة التوجيه، الوسائد الهوائية، تصميم الهيكل.

- البيئة : تتعلق بتصميم الطريق، الصيانة، الإضاءة، الإشارات، الأحوال الجوية، الرؤية، والرقابة القانونية.

الوجه الآخر لحوادث النقل :

رغم آثارها المؤلمة، فإن للحوادث مكاسب مؤسسية و اقتصادية تساهم بشكل غير مباشر في :

▪ نمو قطاع التأمين و توسيع مظلة الحماية مثل اعتماد التأمين الإجباري على المركبات، تحفيز التأمين الصحي والمسؤولية المدنية، تحسين جودة خدمات التأمين

▪ تطوير البنية التحتية والقوانين من خلال تحديث تصميم الطرق والهندسة المرورية، مراجعة القوانين الخاصة بالسرعة، حالة المركبة و الحمولة، إطلاق مشاريع إصلاح عاجلة في المناطق السوداء

▪ تنشيط قطاعات اقتصادية متعددة عن طريق زيادة الطلب على خدمات الصحة لمعالجة المصابين و الصيانة لإصلاح السيارات، نمو سوق قطع الغيار وشراء السيارات، تحفيز الابتكار في أنظمة السلامة الذكية

▪ تحسين جمع البيانات واعتماد التحليل العلمي حيث يتم إنشاء قواعد بيانات وطنية للحوادث، استخدام الذكاء الاصطناعي لرصد وتوقّع المناطق الخطرة، بناء قرارات السياسات العامة على الأدلة

▪ رفع الوعي وتعزيز ثقافة السلامة كإطلاق حملات إعلامية واسعة، إدراج السلامة الطرقية في التعليم، دعم المجتمع المدني للمطالبة بسياسات أكثر فاعلية.

بهذا المعنى، تصبح الحوادث رغم مرارتها، حافزًا لإصلاح السياسات، وتحسين الأنظمة، وتعزيز الثقافة الوقائية.

توصيات إستراتيجية :

يجدر التذكير بأن حماية الأرواح و الممتلكات مقصد شرعي أصيل و قد جاء في قوله تعالى "ولا تلقوا بأيديكم الى الهلكة" مما يعزز البعد الأخلاقي و الديني في تبني سياسات تضمن السلامة و تقلل من المخاط و عليه فإن فهم الحوادث من هذا المنظور الديني و العلمي هو المدخل الرئيسي نحو تقليص الخسائر وتحقيق أهداف السلامة و الأمان من خلال التقليل من حوادث السير و فيما يلي مجموعة من الاقتراحات العلمية والتقنية للحد من حوادث النقل، مصنّفة حسب العناصر الأساسية (السائق، المركبة، الطريق، البيئة، والحوكمة) :

على مستوى الحوكمة والسياسات:

• تبني مقاربة Haddon في التحقيقات الرسمية لتحديد الأسباب بشكل علمي

• إحداث مرصد وطني للحوادث مزوّد ببيانات حديثة وأدوات تحليل

• تحديث المعايير الهندسية للطرق لتتلاءم مع البيئة المحلية الصحراوية :

o التكيف مع زحف الرمال

o استخدام علامات مرئية في ظروف الإضاءة المنخفضة

o تجهيز نقاط استراحة إلزامية على المحاور الطويلة

• دمج التكوين الهندسي المتخصص في النقل في سياسات السلامة الطرقية داخل المؤسسات العمومية (إدارة النقل، سلطة تنظيم النقل، شركة النقل العمومية و اتحاديات النقل...)

• تبني استراتيجية "السرعة الآمنة" المبنية على طبيعة الطريق ومستخدميه.

• فرض التأمين الذكي المرتبط بسلوك السائق.

• تشجيع البحث العلمي والتجريب الميداني في قضايا السلامة الطرقية والتقنيات الملائمة للسياق المحلي.

• تحويل الحوادث إلى مؤشرات للإنذار المبكر والتدخل الوقائي

على مستوى الطريق والبنية التحتية:

• إعادة تصنيف النقاط السوداء (مناطق الحوادث المتكررة) والتدخل فيها هندسيًا.

• تصميم هندسي آمن للمفترقات والتقاطعات

• تحسين الإضاءة والتشوير الأفقي والعمودي خصوصًا في الطرق الثانوية.

• استخدام تقنيات تحليل البيانات المرورية لتحديد أماكن الخطورة المتغيرة حسب الزمن.

على مستوى السائق (العنصر البشري) :

• إلزامية التكوين المستمر للسائقين المهنيين، خاصة في النقل الجماعي والنقل بالشاحنات.

• اختبارات طبية ونفسية دورية للكشف عن الإرهاق، الإدمان، أو القصور البصري والذهني.

• تعزيز الرقابة على ساعات القيادة والراحة باستخدام أجهزة تتبع رقمية

• دمج مفاهيم السلامة الطرقية في التعليم المدرسي والجامعي.

على مستوى السيارات :

• إلزام الفحص التقني الإلكتروني الدوري لجميع المركبات.

• تشجيع استعمال المركبات الذكية المزوّدة بأنظمة مساعدة السائق (ADAS)، مثل:

o نظام الفرملة التلقائية

o نظام التحذير عند الخروج من المسار

o الكاميرات الخلفية والحساسات

• ربط ترقيم المركبات إلكترونيًا بسجل الصيانة والفحص الفني.

على مستوى البيئة والمناخ:

• إنشاء نظام إنذار مبكر للعواصف الرملية في المناطق الصحراوية.

• تركيب حساسات بيئية ذكية على محاور الطرق الحساسة لتنبيه السائقين تلقائيًا.

• تصميم مصدّات رياح طبيعية أو صناعية لحماية المسارات من الترمل.

الخلاصة :

إن النقل ليس فقط رافعة للتنمية بل يعتبر مقياس لرقي الدول في تعاملها مع حياة الإنسان و إنني أومن بأن هندسة النقل القائمة على التحليل والتخطيط قادرة على صنع الفارق وتقديم نموذج وطني يُحتذى به في تقليص الحوادث وتحقيق السلامة للجميع.

في موضوعات قادمة سنتناول، إن شاء الله تعالى و بشكل فني بحت، عدة مجالات منها النقل الجماعي بالحافلات في المدن و الازدحام المروري و دور الإشارات الضوئية و الجسور و شروط اللجوء اليهما كحلول تنظيمية إضافة الى قضايا أخرى ذات بعد اقتصادي و هندسي.

أباي ولد أمعييف مهندس مدني متخصص في النقل و المواصلات