شهدت الفترة الأخيرة عمليات قتل ممنهجة للرعايا الموريتانيين داخل جمهورية مالي وفي القرى الحدودية وفي الأرياف الفسيحة على جانبي الحدود بين البلدين.
لم تتضح أهداف لهذه العمليات ولم نعرف من يقوم بها يقينا ولم يسلم منها مكون من مكونات المجتمع الموريتاني وراح ضحيتها قوم كثر لا يجمع بينهم سوى أنهم ينتمون جميعا لموريتانيا بعربها وفُلاٌنها…….فما الذي دفع لتأزيم العلاقات الموريتانية المالية؟ ولماذا هذا الاستهداف العبثي لأبرياء ولماذا يكون القتل من أجل القتل؟
في المشهد المالي لاعبون أربعة أولهم حكومة باماكو وثانيهم روسيا (فاغنر) وثالثهم الجماعات الإنفصالية أو الجهادية أو المتمردة ورابع اللاعبين فرنسا التي خسرت وجودها في البلاد حين وصول الحاكم الجديد للسلطة.
فمن المستفيد من بين هؤلاء مما يتعرض له المواطنون الموريتانيون في مالي ؟ ومن المستفيد من تأزيم الوضع المالي عموما؟ ومن يستفيد أكثر من تعكير الأجواء بين سلطة مالي الجديدة وجيرانها في الجزائر وموريتانيا؟ وهل تقدر حكومة مالي على البقاء حين تتأزم علاقاتها بموريتانيا ؟ وهل تقدر على مواجهة احتمال أن يتوقف شريناها الأهم عبر ميناء نواكشوط؟ وما الذي يدفعها أصلا للتعرض للموريتانيين ؟ وهل من ثارات قديمة بين البنبارا والبيظان ؟ وهل لمالي حاجة لخلق أعداء جدد في وقت تتعرض فيه لحملات فرنسية وغربية في الخارج ومن داخل البلاد من خلال أذرعهم الطويلة داخل المجتمع والجيش ؟ وما الذي قد تكسبه حكومة مالي من نزاع مسلح مع موريتانيا عبر حدود بآلاف الكيلومترات؟ وهل من المعقول أن تسعى لخلق بؤرة توتر حدودي جديدة لها مع بلادنا وهي التي تخشى خطرا حقيقيا من ساحل العاج حيث الوجود العسكري القوي لفرنسا ؟ وما هي المخاطر التي يمثلها وجود الموريتانيين على الدولة المالية في الداخل أو على الحدود….؟ وما الذي يفيد روسيا عبر منظمتها “فاغنر” أن تقتل الموريتانيين وهي التي تُسَوٌقُ نموذجا مغايرا للنموذج الغربي وتسعى لأن تحمل للدول المضيفة الإستقرار الأمني والسياسي والتحرر من التبعية للقوى الإستعمارية ؟
المجموعات المتمردة على الحكومة المركزية في مالي لا يخدمها أي استقرار في هذا البلد وكلما توترت أوضاعه كلما كان ذلك في مصلحتها فتقترب من تحقيق أهدافها في الإنفصال أو في بناء نموذج جهادي في هذا الركن من البلاد أو ذاك.
لا يستبعد إذن أن تقوم هذه الجماعات بالتعرض لتجمعات الموريتانيين بغية شحن الأجواء بين البلدين فتقوم حرب بينهما أو يقدم أحدهما على قطع علاقاته بالآخر أو يوقف التواصل الإقتصادي فتتوقف حركة التبادلات وتتوقف الواردات المالية عبر ميناء نواكشوط وأي شيء حصل من هذا القبيل سيكون ضربة قاسية لحكومة باماكو وشعب مالي وهو أمر يخدم هذه الجماعات يقينا ولا يخدم حكومة مالي مطلقا….
اللاعب الرابع هو فرنسا وهذا اللاعب له علاقات وطيدة مع اللاعب الثالث وله أذرع طويلة داخل مالي وهو الخاسر الأكبر من الوضع المالي الجديد وعدو الحكومة المالية الحالية اللدود فكيف لا تكون له يد أو أيادي في تحريك هذا الطيش المتنامي الذي يتعرض له المواطنون الموريتانيون ؟
فرنسا دربت الجيش المالي وكونت الكثير من ضباطه وفعلتها مع الدول الإفريقية كافة وفتحت لها مدارسها العسكرية أكثر مما فتحت لها الجامعات والمعاهد لأنها تريد أن تخلق صلات قوية بالمؤسسة العسكرية لتتحكم في توجهات الحكومات الإفريفية أو تنقلب عليها حين ترى إشارات تشي باحتمال تمردها أو مجرد التململ من وجودها..
وقد أكدت تقارير متواترة من جهات عدة أن لفرنسا صلات وثيقة مع الجماعات الجهادية في الساحل وأنها دعمتها بالسلاح والخبرات لزعزعة استقرار مالي فخلقت مبررا لقوة “برخان” وعادت بقوة لدولة تعتبرها من بين مستعمراتها الإفريقية الأكثر تمردا عليها منذ الإستقلال والأقل انقيادا….. فلا يستبعد إذن أن تقوم فرنسا بتوجيه هذه الحركات للتعرض للمواطنين الموريتانيين كما لا يستبعد أن تكون أذرعها الطويلة في المؤسسة العسكرية المالية تساعد في ذلك فتتحرك وحدات عسكرية مالية نحو تجمعات حدودية موريتانية تعرفها جيدا فتستهدفها عن قصد وسبق إصرار وتزعم أن البقر تشابه عليها وأنها ظنتهم جماعات مالية متمردة وتبرر حجتها بالتداخل السكاني بين الشعبين وصعوبة التمييز بين المكونات المالية والموريتانية……
وهذه الأذرع الفرنسية نفسها داخل الجيش المالي قد تكون هي التي تدفع بتأزيم العلاقات المالية الجزائرية إذ بأي منطق تكون لروسيا وفاغنر مصلحة أن تسوء العلاقات بين الجزائر حليفها القديم والثابت والقوي ومالي حليفها الجديد الذي استدعاها بحثا عن التحرر والإستقرار وتقديم نموذج شراكة وتعاون مغاير لما تقدمه فرنسا ؟ وهل يكون الإستقرار بخلق المشاكل مع الجيران !!!!!
ستصيب فرنسا عصفورين أو أكثر بحجر واحد، فإن اشتعلت الحرب قد تضطر موريتانيا لطلب الدعم العسكري منها لمواجهة فاغنر الروسية فتعود فرنسا لمنازلة الوجود الروسي في المنطقة وهو حلم الفرنسيبن الأهم في هذه الأيام، وإن اشتعلت الحرب ستغلق موريتانيا شريان التموين الأهم لمالي عبر ميناء انواكشوط فتتهيأ الظروف لإنقلاب عسكري في باماكو فتعود فرنسا لمالى وتعود بقوة “برخان” جديدة وتطرد روسيا وفاغنر فتكسب مالي من جديد وتكسب وجودا عسكريا في موريتانيا يساعدها في الضغط على السنغال في وقت يتلمس طريق التنصل من عملتها وقوتها العسكرية على أراضيه …..فأية مصلحة يمكن تخيٌلها للحكومة المالية في تأزيم الوضع مع موريتانيا ؟
ثم أين مصلحة فاغنر الروسية في قتل الموريتانيين ؟ الروس يملأون الفراغ الذي نتج عن تمرد الأفارقة على فرنسا ولا مصلحة لهم في أن يكونوا جزءا من النزاعات داخل القارة ولا يعقل أن تكون روسيا من يسعى لتوتير الأجواء بين باماكو والجزائر حليفها القوي والثابت في المنطقة ولا مصلحة لها في توتير الأجواء مع موريتانيا في وقت يتم إنشاء طريق معبد يربط الجزائر بموريتانيا ليكون نافذة لصديق روسيا الأهم نحو غرب ووسط القارة ….
في التاسع من ابريل عام 1989 حصل نزاع حدودي عادي بين مزارعين من السوننك السنغاليين ومنمين من الفلان الموريتانيين في بلدة “اجياوارا” السنغالية على الحدود مع موريتانيا….. أمر عادي يحصل دوما بين الجيران حين يتضرر أحدهما من الآخر وقد يحصل بين مواطنين من بلد واحد ولا يكون أمرا.
كانت أحداث “اجياوارا ” ستبقى حدثا عاديا لولا النفخ في الكير والشحن والنفير المجنون فاشتعلت نار حرب لم تبق ولم تذر راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء لا ناقة لهم ولا جمل في أحداث “اجياوارا” ولا يعرفونها أصلا ولم يسمعوا بها ولا علاقة لهم بمنميها ولا بمزارعيها……كانت حركة افلام وحدها من سجل النقاط…
مات الأبرياء في السنغال وماتوا في موريتانيا ونهبت ممتلكات طائلة تحصلوا عليها بالجهد الجهيد طيلة عقود من البيع والشراء ، ماتوا جميعا بالسكاكين والأفران ومن لم يمت منهم ذاق مر العذاب وجاء مسفرا ما بيده درهم ولا دينار فكل جهده وكده ومثابرته قد نهبه الجيران وتوقفت علاقات قرون بين شعبين جارين مسلمين ولم ينجو من المحنة إلا الذين كانوا سببها المباشر “اجياوارا” وأهلها مزارعوها والمنمون من جوارها….
انتهت المحنة وعادت العلاقات لمجاريها ولكن ما الذي جناه البلدان من الشحن وتوتير الأوضاع ؟ عادت العلاقات لكن الأرواح لم تعد لمن مات ولم تعد الممتلكات لمن ضاعت من يديه……
اتركوها فإنها منتنة فالحرب شر مطلق قد تكسب منها جولة وقد تكسب جولات ولكن في النهاية ستخسر أضعاف أضعاف ما تحصلت عليه -إن تحصلت على شيء- وحين تنتهي وحتما ستنتهي سيدرك الجميع أنه خسر كل شيء ولم يربح أي شيء
وسيعلم الذين أشعلوا نارها أن مصير الشعوب ليس لعبة ولا يكون التعريض بها سهلا بهذه البساطة ولكنهم لن يدركوا ذلك إلا بعد فوات الأوان….
علينا أن نبذل قصارى جهودنا من أجل التواصل مع الإخوان الماليين ومع روسيا والجزائر للبحث عن آلية مشتركة لتأمين المناطق الحدودية ومنع احتكاكات بالخطأ وعلينا أن نتواصل مع فرنسا ونبلغها أن اللعب بالنار في هذه المنطقة لن يجلب مصلحة لأحد وقد يسبب خسارة علاقاتها مع دول أخرى في المنطقة….ولن يكون لها نافذة عودة.
يدرك بالدبلوماسية النشطة الهادئة ما لا يدرك بالقوة الطائشة غير المحسوبة.